من فضلك انتا لست مسجلا لدينا
اذا كنت زائرا تشرفنا تسجيلك فى منتدى الفراعنة
واذا كنت عضوا من فضلك قوم بالدخول
من فضلك انتا لست مسجلا لدينا
اذا كنت زائرا تشرفنا تسجيلك فى منتدى الفراعنة
واذا كنت عضوا من فضلك قوم بالدخول
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 قراءة دعوية في السيرة النبوية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الأميرة الحسناء
نائب المدير
نائب المدير



مزاجي : قراءة دعوية في السيرة النبوية 2910
قراءة دعوية في السيرة النبوية LebanonC
عدد المساهمات : 730
تاريخ التسجيل : 24/03/2010
العمر : 37

قراءة دعوية في السيرة النبوية Empty
مُساهمةموضوع: قراءة دعوية في السيرة النبوية   قراءة دعوية في السيرة النبوية I_icon_minitimeالأربعاء أغسطس 18, 2010 5:00 am




الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
المحتويات :
* المقدمة .
* الصفحة الأولى : سياج الوقاية والحماية عن العادات الجاهلية .
* الصفحة الثانية : الخلوة في العبادة .
* الصفحة الثالثة : الصلة بالله .
* الصفحة الرابعة : المدثر .
* الصفحة الخامسة : إنذار الأقربين .
* الصفحة السادسة : الحكمة والتهيئة في الإنذار .
* الصفحة السابعة : النذير العريان .
* الصفحة الثامنة : دار الأرقم بن أبي الأرقم .
* الصفحة التاسعة : الهجرة الأولى إلى الحبشة .
* الصفحة العاشرة : خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف .
* الصفحة الحادية عشر : الهجرة النبوية إلى المدينة .
* الصفحة الثانية عشر : الجهاد .
* الصفحة الأخيرة :استكمال جوانب البناء الإسلامي لشتى صور الحياة .
* دراسات وأبحاث في السيرة النبوية .


قراءة دعوية في السيرة النبوية
المقدمة
نحن - أيها الأحبة - نعلم أنا ما تعبدنا بإتباع أحد إلا بإتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو قدوتنا وأسوتنا ، كما قال - جل وعلا - : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً } وإذا عرفنا ذلك ظهرت لنا أهمية سيرة النبي - عليه الصلاة والسلام - وتعلمها ، والاقتباس منها ، والإقتداء بها ، سيما في مثل هذه الأعصر التي كثر فيها التخبط ، وازدادت فيها الشبهات ، وتكاثرت الفتن ، وأصبح كلٌ يقول بقول ، ويدعو إلى دعوة ، ويبقى المسلم لا يضبطه شيء إلا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم .

ومن رحمة الله - عز وجل - بعباده المؤمنين ، وبهذه الأمة على وجه الخصوص ، وبالناس أجمعين عامة ، أن هذه العبرة كانت واضحة مفصلة ، كأنما ولد - عليه الصلاة والسلام - على ضوء الشمس - كما يقول بعض المؤرخين - ، فما من شيء خفي من سيرته ، فنحن نعلم عن مولده ، وعن طفولته ، وعن قبيلته وأسرته ، وعن نسبه وعن حسبه، كما نعلم أيضاً عن حياته في بيته ، ونعلم أقواله وأفعاله ، حتى في أدق الأمور وأبسطها ، فكان ذلك نوعاً من النعمة الكبرى ، حتى يجتري المسلم من سيرة النبي - عليه الصلاة والسلام - كل ما يحتاج إليه .

ومن هنا فإن السيرة النبوية يمكن أن تقرأ قراءات عديدة ، فيمكن أن نقرأها قراءة عسكرية في حنكته - عليه الصلاة والسلام - في الغزوات التي قادها ، والسرايا التي أنفذها ، وما يلحق بذلك من الأمور ، ويمكن أن نقرأ السيرة قراءة فكرية ، فيما كان يبينه النبي - عليه الصلاة والسلام - من دحض الشبه ، وإبطال الباطل ، وإقامة الحجة ، إلى غير ذلك من الأساليب والمقتبسات التي يمكن أن تؤخذ من سيرته - عليه الصلاة والسلام - .

وقراءتنا هذه هي قراءة دعوية في السيرة النبوية ؛ وهي صفحات متنوعة من سيرة النبي - عليه الصلاة والسلام- إلا أنها متدرجة مترتبة بحسب التاريخ الذي وقعت فيه هذه الأحداث ، وقرئت فيه هذه الصفحات ، إضافة على أن هذه القراءة تأتي قراءة منهجية ، مرتبط بعضها ببعض فهي تعبر عن البداية والخطوة التي بعدها ، وما يلحق بذلك في نوع من بيان الأولويات وترتيبها، ولذلك هي أو هذا الدرس محاولة لاختصار السيرة من خلال عرض مراحل الدعوة فيها ، فنحن نريد أن نرى سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته ، والملامح والمعالم التي ينبغي أن يستقيها الدعاة والمربون من هذه السيرة العطرة ، ليكون تأسيسهم وبناؤهم ودعوتهم على طريقة قويمة ، وأن تؤتي بإذن الله - عز وجل - الثمار المرجوة المنشودة

الصفحة الأولى : سياج الوقاية والحماية عن العادات الجاهلية
روى البخاري ،أنه ‏لما بنيت ‏‏الكعبة ‏ذهب النبي -‏ ‏صلى الله عليه ‏وسلم -‏ ‏والعباس ‏ ‏ينقلان الحجارة ، فقال ‏‏العباس ‏‏للنبي ‏- ‏صلى الله ‏عليه ‏وسلم -‏ ‏اجعل ‏ إزارك على رقبتك ، فخر إلى الأرض ‏، ‏وطمحت ‏ ‏عيناه إلى السماء ، فقال : ‏أرني إزاري فشده عليه . وروى الحاكم عن علي مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين ، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك ، وما هممت بسوء حتى أكرمني الله - عز وجل – برسالته ، فإني قد قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعالي مكة ، لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشباب ، فقال : افعل فخرجت أريد ذلك ، حتى إذا جئت أول دور من دور مكة سمعت عزفاً بالدفوف والمزامير فقلت ما هذا ؟ فقالوا : فلان بن فلان تزوج فلانة بنت فلان ، فجلست أنظر إليهم ، فضرب الله على أذني فنمت ، فما أيقظني إلا مس الشمس ، فجئت إلى صاحبي فقال : ما خبرك ؟ فقصصت عليه الخبر ، ثم كان ذلك ثانية فلما جلست لأستمع ضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس ) . قال : فلم يقع منه - عليه الصلاة والسلام - إلا مثل هذا . قال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي ، وضعف بعضهم هذا الحديث بعلل معتبرة عند بعض أهل العلم ، وقال ابن كثير- رحمة الله عليه - في تاريخه : هذا غريب جداً ولكن هذه الراويات بمجموعها مع وجود رواية صحيحة في البخاري هي التي نريد أن نقف فيها الوقفة الأولى .

إذ هذه الصفحة من سيرته - عليه الصلاة والسلام - تبين لنا معلماً مهماً من معالم الدعوة ، وهو تجنب التأثير السلبي للمجتمع المنحرف ، ذلك أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قد عاش في هذه الجاهلية التي كانت منحرفة في أفكارها وعقائدها ، وكانت أيضاً منحرفة في سلوكها وأخلاقياتها، وكانت منحرفة في قوانينها وعاداتها، إلا أنه - عليه الصلاة والسلام - لم يشارك هؤلاء القوم بشيء من هذا ، ولم يخالطهم فيه ، ولم يقبل منهم ذلك ، بل كان بما وفقه الله - عز وجل – إليه ، وما عصمه به ، مجتنباً هذه الصور الانحرافية كلها ، وهذا أمر مهم في شأن الدعوة ، وهو سياج الوقاية والحماية ولا بد لنا أن ندرك أن الوقاية أهم وأولى في التقديم من العلاج .

ولذلك في مجال الدعوة سيما في الأعصر التي تختلط فيها المفاهيم الأساسية ، ولا تتمثل معالم المجتمع الإسلامي تمثلاً كاملاً ، وإذا بمبادئ ومذاهب فكرية تخالف دين الله - عز وجل - وإذا بشرائع وأحكام وقوانين لا تتفق مع شريعة الله - سبحانه وتعالى - وإذا بأوضاع وعادات وتقاليد لا تتطابق مع هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإذا بالمسلم في وسط هذه البيئة إن خالطها أو أخذ شيئاً منها أو قبلها أو فتن بها أو اعتقدها أو دعا إليها ، فلا شك أنه سيكون متأثراً غاية التأثر وسيضع هذا الاشتراك بصماته على فكره ، وعلى قلبه ، وعلى سلوكه وتصوراته، ولذلك لا بد أن نؤكد على هذا المعنى ، وهو معنى أن يعتزل المسلم كل انحراف في الجاهلية التي يعش فيها ، وألا يكون موافقا لها من ناحية المبدأ ، وألا يكون مائلاً لها من ناحية الشعور ، وألا يكون متطابقاً معها من ناحية السلوك ، وألا يكون مساعداً لها من ناحية الغض عنها أو عدم السعي لإنكارها ، وتضييق سبل ترويجها وقوتها وانتشارها .
ولذلك ورد الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذم بني إسرائيل وتلا - عليه الصلاة والسلام - قول الله - جل وعلا - في وصفهم : { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } والنبي - عليه الصلاة والسلام - قال : (‏ إن ‏بني إسرائيل ‏ ‏لما وقع فيهم النقص كان الرجل فيهم يرى أخاه على الذنب ‏فينهاه عنه فإذا كان الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ... )‏‏ ‏
فهذا معلم مهم ينبغي أن يرسخه أهل الدعوة ، أهل العلم والإيمان وهو أن ينشئوا في قلب المؤمن تلك العزلة الشعورية ، والمفاصلة القلبية ، والمفارقة من حيث الاعتقاد والمبدأ لكل صورة انحرافية يعيشها المسلم في وسط أي مجتمع من المجتمعات .

وذلك حتى يبرأ من الآثار ، لأن القلب والنفس جهاز استقبال فإذا سمع المرء الخنا ، وإذا رأى الفحش والفجور ، وإذا سمع مقالات الباطل ، يوشك أن ينطبع بعضها في قلبه ، وأن يغيّر في فكره ، وأن يؤثر في سلوكه ، وهذا معلم مهم يعد أول الخطوات التي هي الوقاية استعداداً لما بعدها .

الصفحة الثانية : الخلوة في العبادة
ومن سيرته - عليه الصلاة والسلام - أنه ( كان يتحنث الليالي ذوات العدد في حراء ) وفي رواية خديجة - رضي الله عنها - قالت : فكنت أزوده لذلك فيختلي في غار حراء الشهر والشهرين أو أكثر من ذلك، فقد ورد في بعض الراويات في سيرة ابن هشام : انه كان يمكث شهراً من كل سنة ، وفي بعض الراويات : أنه كان يمكث ستة أشهر ، وهذا المعلم معلم مهم أيضاً في حياة المرء المسلم في البيئة الجاهلية ، فكما أنه فارقها بقلبه ؛ فإنه يحتاج إلى خلوة يخلو بها ويخلد بها من سخط الدنيا إلى الهدوء الذي يتأمل فيه في ملكوت الله - عز وجل - ويخرج من فتنة إغراء ومدح المادحين ، وذكر محاسنه ومناقبه ، إلى خلوة يتذكر فيها أمره ، ويحاسب نفسه ، كما أنه يخرج من هذه المشكلات والمعضلات التي قد تؤثر على نفسه وعلى إيمانه ، فيصفو قلبه في لحظات من المناجاة لله - عز وجل - والدعاء له ، والسكينة إليه -سبحانه وتعالى - .

ولذلك يحتاج المسلم بين الفينة والأخرى إلى أوقات قليلة من يومه ، وإلى أوقات أطول قليلاً من أسبوعه وشهره ، حتى يجعل لنفسه هذه المحطات التي يراجع فيها نفسه ، ويخلصها من أدرانها وأوضارها ، وأن يكون أيضاً مستقلاً فيها عن كل ما يؤثر على فكره ورأيه وموقفه ، ليكون ذلك أدعى له على تجديد نشاطه ، وعلى تقويم مسيرته . وكانت هذه في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته ، فكانت معيناً له ، ومهيأ له بما استقبل من الوحي بعد ذلك وما تلقاه من الرسالة التي وردت في الصحيح من حديث النبي- صلى الله عليه وسلم - في وصف أول اتصال بين الأرض والسماء، وأول نزول للوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما كان في بعض أيامه ولياليه في غار حراء كما يقول - عليه الصلاة والسلام - إذ نزل عليه جبريل فقال له : اقرأ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما أنا بقارئ ! قال : فأخذني فغطني ـ أي بمعنى ضمّني ـ حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ـ أي أطلقني ـ فقال : اقرأ ، قلت : ما أنا بقارئ ! قال : فأخذني فغطني الثانية ثم أرسلني فقال : اقرأ، قلت : ما أنا بقارئ ! ثم غطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ، قلت : ما أنا بقارئ ! قال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم } فكان هذا أول نزول للوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
الصفحة الثالثة : الصلة بالله
وفي هذه الصفحة معلمان مهمان في حياة الإنسان المسلم وفي سيرة الدعوة التي ينبغي أن ننتبه لها :
1- الصلة بالله عز وجل
فإنه لا يمكن للإنسان المسلم أن يواجه الباطل ، ولا أن يقف في وجه الأعداء ، ولا أن يتغلب على شهوات النفس ، ولا أن يستعلي على فتن الدنيا ، ولا أن يكون موصول الحبل بالله - عز وجل – والنبي - صلى الله عليه وسلم - منذ أن اقتبس هذه النبوة أو قبست في قلبه هذه النبوة والرسالة بالوحي ، بقي مشدوداً بهذا الحبل المتين في الصلة بالله - عز وجل -، تلك الصلة التي تجعل المرء كلما احلولكت في وجهه الظلمات ، وسدت في وجهه الأبواب ، وجد أن النور والشعاع والضياء فيما عند الله - عز وجل - ، ووجد أن الفرج والتنفيس والنصر من عند الله - عز وجل - كما ورد في قوله سبحانه وتعالى : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } هذه الصلة بالله - عز وجل - هي الأساس المتين ، والركن الركين التي تقوي الإنسان المسلم ، فتجعله في صورة يستطيع بها أن يطبق هذا الدين ، وأن يسعى فيه ، وأن يثبت عليه بإذن الله - عز وجل - ، أضف إلى ذلك أن هذه الصلة هي التي تفرغ في قلبه السكينة ، وتنشئ في نفسه الطمأنينة ، وتجعله هادئ البال ، مجتمع الفكر ، فليس عنده حيرة ، ولا اضطراب ، ولا قلق ولا نوازع نفسية ، ولا أمراض قلبيه مما يعتري الناس عندما لا يركنون إلى الله - عز وجل - ، وعندما يركنون إلى هذه الدنيا ، أو يخافون من البشر ؛ فإذا بهم حينئذ قد تفرقت بهم الأهواء ، وقد انخلعت قلوبهم خوفاً ، وقد تفرقت نفوسهم في شعاب الأرض تطلب هنا وهنا .

أما المؤمن فينطبق فيه قول الله - عز وجل - : { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } فهو راسخ إلى هذا الوعد الرباني ، وإلى هذا الزاد الإيماني ، الذي تمثل في هذه الصورة من حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر الصلة بالله أمر طويل قد سلف لنا فيه حديث عندما تحدثنا عن التربية الإيمانية ، ونحن نعلم الزاد الإيماني الناشئ عن العبادة والصلة والخضوع والذلة والابتهال والدعاء والمناجاة لله سبحانه وتعالى .

2- القوة والشدة
فليس أمر هذا الدين هينا ليناً ؛ إنه لا يؤخذ بالنوم والكسل ، ولا يمكن أن يلتزمه المرء دونما جهد وعمل ، ولذلك في هذه اللحظة الأولى التي كان الوحي فيها قريباً من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان المتصور المتوقع أن يأتيه في صورة هينة لينة ، وبأسلوب تدريجي تقريبي ، ولكن الأمر فيه دلالة على عظمة هذه الرسالة ، وعلى شدتها ، وعلى أنها تحتاج إلى ذلك الجهد الذي حصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - عندما غطه جبريل أول مرة ، وثاني مرة ، وثالث مرة ، حتى يكون هناك استعداد وتأهل ، وإدراك لعظمة هذه الرسالة، كما قال الله - عز وجل – { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } وكما قال الله - عز وجل - في شأن يحيى - عليه السلام - :{ يا يحيى خذ الكتاب بقوة } فلا بد لنا أن ندرك أن من أهم المعالم الدعوية أن نبين للناس عظمة هذه الرسالة ، وعظمة حملها ، وعظمة الأمانة التي ذكرها الله - سبحانه وتعالى - في قوله : { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً } إنه لا بد من الإعداد منذ البدايات ، حتى يمكن بعد ذلك أن يسير المرء ليبلغ النهايات ، أما أن تكون البداية ضعيفة، وأن تكون البداية نوعاً من الترف أو التأميل في هذه الدنيا أو التيسير الذي يتعدى حده ليبين أو ليوهم الإنسان أن هذا الدين يمكن أن يكون محققاً لبعض المكاسب الدنيوية ، ليأكل أو ليشرب ، أو لينعم أو ليعيش بعيداً عن أي مهمة ورسالة ، أو جهد وعمل ؛ فإن ذلك لا يتفق مع هذه الصورة من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هي ظاهر فيها القوة التي ينبغي أن يؤخذ بها أمر الله - عز وجل - لأنه على هذا النحو المهم العظيم في حياة الإنسان .

الصفحة الرابعة : المدثر
إننا نحتاج أولاً إلى تلك المفارقة في الجاهلية لئلا تنعكس عليها آثارنا ، وكذلك نحتاج إلى تلك المراجعة والخلوص من هذه الدنيا وأهلها حتى نقوم المسيرة ، ونحتاج إلى هذين المعلمين صلة بالله - عز وجل - لا تضعف ولا تفتر ، وتهيؤ من أثر هذه الصلة لحمل هذه الرسالة بكل قوة وعزم ومضاء ، ثم نأتي إلى الصفحة الرابعة فإذا فيها قول الله - عز وجل – { يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر } وهذه كما يعلق على هذه الآيات صاحب الرحيق المختوم تعليقاً جيداً ليقول : فغاية الإنذار { قم فأنذر} أن يبلغ به العالم كله ، ولم يحدد في هذه الآية أي نوع من الناس الذين ينذرون ، بل هو إنذار للعالم كله ، وللبشرية جمعاء ، وغاية التكبير أن لا يكون لأحد في الأرض كبرياء إلا وتكسر شوكتها حتى لا يبقى كبرياء ولا كبير إلا الله - عز وجل -، وغاية التطهير بالثياب وهجران الرجز أن يتطهر الباطن ، وأن تتزكى النفس من الشوائب ، وغاية عدم الإكثار بالمنة ألا يرى لنفسه ولجهده ولبذله في سبيل الله - عز وجل - أي شيء يذكر ، بل ما يزال يبذل في سبيل الله - عز وجل -، { ولربك فاصبر } إشعار بأن هذا الطريق فيه ابتلاء ، وفيه عناء ، وفيه معضلات ومشكلات تحتاج إلى هذا الصبر الذي يعين على هذا الطريق .

ولذلك نرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما رجع من غار حراء ، وجاء إلى زوجته خديجة وهو يقول : دثروني.. زملوني ، ثم تنزل هذه الآيات وكذلك قول الله - عز وجل - : { يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا } وهنا { يا أيها المدثر * قم فأنذر } هذا الذي تدثر بالأغطية ليهدئ من روعه ، وليجلب الدفء إلى جسمه، جاءه هذا الأمر ليبين أن معلم الدعوة المهم هو أن لا يكون المرء مسلماً في نفسه ، ولا صالحاً في سلوكه فحسب ، ولا يكفيه ما في قلبه من المشاعر حتى ينطق لسانه ، ويحرك جوارحه ، ويمضي بهذه الدعوة مشرقاً ومغرباً بكل صورة حتى يبلغ الغاية والمنتهى في الإنذار وفي التكبير لله - عز وجل - ، وفي هجران الرجز ، وفي التطهير للنفس ، وفي عدم الاستكثار فيما يبذله في هذا الطريق ، مما يدل على أن هذا المعلم مهم جداً ، وهو أنه لا بد أن نربي الناس ، وأن نعلمهم أن من تعلم شيئاً وجب عليه تبليغه للناس كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( بلغوا عني ولو آية ) وأن كل امرئ في عنقه مسئولية وأمانة أن يبلغ من دين الله - عز وجل -ما عرفه من حكم أو من حكمة أو من إصلاح يحتاج الناس إليه في هذه الحياة ، حتى يشع نور هذا الدين في كل مكان ، وحتى تغزو هدايته كل قلب ، وحتى تلامس هذه البصيرة الراشدة كل أذن ومسمع .

الصفحة الخامسة : إنذار الأقربين
في هذا المعلم نجد الدعوة وتبليغها ، ونجد الدعوة وطريقها ، ونجد الدعوة وأسلوبها الذي توافق في قوله - سبحانه وتعالى – { وأنذر عشيرتك الأقربين } هذه الآيات نزلت في سورة الشعراء ، وكان في أولها قصة موسى - عليه السلام - منذ بعثته إلى خروجه من أرض مصر ، ثم رجوعه ومواجهته لفرعون ، ثم خروجه مع بني إسرائيل ، وجاءت بعد ذلك قصص الرسل والأنبياء ، وما كان مع أقوامهم وجاء بعد هذا التلخيص لسيرة موسى - عليه السلام - بيان لطريقة الدعوة ، وأنها كما أمر الله - عز وجل - تبدأ بالأقربين وبالصورة التي ستأتي انتقاء وتجميعاً لأهل الإيمان ، ثم مفارقة لأهل الباطل ومواجهة لهم ؛ فإنه بعد أن ندرك عظمة هذه الرسالة ؛ فإن ذلك ينبغي أن لا يكون أمراً فكرياً ، لأن هذه الرسالة عظيمة ، وهذه المهمة خطيرة ، وهذا العمل جليل ، لا ينبغي أن يتحول ذلك كما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أمر واجب التنفيذ ، وهو أن ينطلق المرء بالدعوة إلى الله - عز وجل - كما أمر سبحانه وتعالى .

الصفحة السادسة : الحكمة والتهيئة في الإنذار
لقد بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأقربين ، وليس كل الأقربين ، وإنما كان يختار اختياراً ، وينتقي انتقاءً ، ويتوسم توسماً ، ويتفرس فراسة ، حتى يختار الأدنى والأقرب من هذا الدين بخلقه وسمته ورجاحة عقله وطهارة سلوكه .

فكان أول من اسلم من الرجال أبو بكر - رضي الله عنه - وقد ورد في كثير من الآثار أنه ما شرب خمراً ، وما سجد لصنم قط ، وكان أنسب قريش لقريش وكان أشهر رجالها في تجارتهم ، وكانت هذه الملامح هي ملامح الانتقاء التي رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أبي بكر ، فكان أول من دعاه من الرجال وأسلم .

وأول من أسلم من الغلمان علي بن أبي طالب ، وكان لصيق النبي - صلى الله عليه وسلم - ورفيقه، وبعد ذلك أول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة ، وكان مولى للنبي - عليه الصلاة والسلام - ، وزوجه من النساء خديجة - رضي الله عنها- وكانت قريبة منه ، فكان يبذر الدعوة في الأقربين المقربين من حيث قربهم من هذه الدعوة .

وبعض الملامح التي يؤمل فيهم أن يكونوا أسرع في القبول ، وأسرع في التأثر ، وأسرع في أن يعضدوا هذه الدعوة ، وأن يشدوا في ركابها ، وأن يدعموها، إضافة إلى القرب الحسي ، سواء كان قُرباً في النسب ، أو كان قرباً في البيئة ، وهذا لا شك أنه مهم ، لأن بعض من يحبون الدعوة ، ويرغبون في نشرها يشرّقون ويغرّبون ، ويدعون هنا وهناك لا ينفع الله بهم ، لكن النفع الأكثر والأظهر في تأثيره ، والأسرع فيما يعود على الدعوة والمجتمع الإسلامي في الأثر ، هي هذه الدعوة التي تختص في هذه الدوائرة القريبة من حيث القرب الحسي ، ومن حيث القرب المعنوي ، وإنك إذا أردت أن تدعوا اليوم ، فإنك تدعوا من يصلي ولو في بيته فهذا أدنى للقبول ممن قد ترك الصلاة أو ترك بعض أوقات الصلاة ، وإنك تدعوا من يصلي في المسجد فتكون استجابته أدعى وأقوى ممن يصلي في بيته، وإنك تدعوا من لا يقارف المعاصي والمنكرات ، ولا يتوغل في الشهوات ، فيكون أقرب لهذه الدعوة والاستجابة لها، ولا يعني ذلك بحال من الأحوال أن لا يراعى أمثال هؤلاء، ولكن هذه أولويات وانتقاءات ، والنبي - عليه الصلاة والسلام - قد أنذر عشيرته أجمعين ، لكنه خص أولئك ابتداءً ، حتى كان اختياره - عليه الصلاة والسلام - في موضعه و مكانه . فلاذ بهذه الكوكبة امرأة وغلام ومولى وشريف من الأشراف .. إذا بهم كوكبة تنطلق بها الدعوة ؛ فأبو بكر يسجل في صحيفته عثمان ، وطلحة ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير ، وسعيد بن زيد ، وأبوعبيدة بن الجراح - رضي الله عنهم أجمعين، ويدخلون هذا الدين بدعوة أبي بكر - رضي الله عنه - بما كان عنده من إيمان ، وحصافة ورجاحة عقل ، إضافة إلى شرفه وكلمته المسموعة .

إذا من هذه الصفحة نقرأ حكمة الدعوة ، والأسلوب الذي تطبق به هذه الدعوة ؛ فإنها ليست مجرد اندفاع ، وإنما هي دراسة وفراسة وتحليل وتقويم ، ثم بعد ذلك خطوات مبنية على دراسة وعلى تهيئة وتدرج ، حتى يكون لها أثرها ، ويكون لها رصيدها وثمارها المرجوة .

الصفحة السابعة : النذير العريان
ننتقل في هذه الصفحة إلى صفحة أخرى ملامسة ومقاربة للتي قبلها ، حتى لا يظن ظان أن الدعوة تكون خاصة بفئة معينة ، بل هي عامة للناس أجمعين . ولذلك بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما نزل قول الله - جل وعلا – { وأنذر عشيرتك الأقربين } بإنذار قومه ، فصعد إلى الصفا ودعا قريشاً بطناً بطناً ، وقال لهم : ما تقولون لو أخبرتكم أن خيلاً ببطن هذا الوادي تريد أن تغير عليكم ؟ قالوا : ما جربنا عليك كذباً ! قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب أليم ، فقال أبو لهب - عليه لعنة الله - : تبا لك ألهذا جمعتنا .

ثم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذ بمبدأ الدعوة والتوسعة ، فلما جاءت المواسم التي كانت تجتمع فيها العرب ويفدون إلى مكة ، كان - عليه الصلاة والسلام - يطوف على القبائل قبيلة قبيلة ، ويمر بمضارب القوم قوماً قوماً ، ويدعوا الناس هنا هناك .. لم يكتف بتلك الفئة ، وإن كانت تلك الصفوة هي التي أولاها - عليه الصلاة والسلام - جهده وتربيته ؛ لأنها كانت قريبة منه ، وكانت مستجيبة له، وكانت متلقية عنه ، وكان تأثيره فيها ، واهتمامه بها عظيماً ، وكان بعد ذلك نتاج أعظم وأعظم في مسيرة الدعوة ، وفي الوقت نفسه وسع دائرة الدعوة - عليه الصلاة والسلام - فبلغها لكل أحد ، وأسمعها لكل أذن ، وهكذا ينبغي أن يكون دعاة الإسلام اليوم يدعون كل أحد ، ويعلون راية الإسلام ويرفعونها ، ويظهرون محاسنه ، ويؤلفون الكتب وينثرون القول الحسن ، لكن ذلك رغم فائدته ونفعه يحتاج إلى أن يكون هناك ذلك التخصيص الذي نبه عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله سيما في المرحلة الأولى من دعوته - عليه الصلاة والسلام - ، وسيأتي ما يؤكد هذا المعنى أيضاً في بقية الصفحات التي نقرأ فيها معالم دعوته - صلى الله عليه وسلم - ؛ فإنه رغم هذا التوسع والانتشار في هذه الدعوة ،إلا أن ذلك التركيز كان يختص بتلك الفئة ، وهذان معلمان مهمان ؛ الحكمة والانتقاء ، والدعوة والاتساع كلاهما معاً ينبغي أن يسير جنباً إلى جنب ، فليست الدعوة كلمات تبذر هنا وهناك ، ولا مؤلفات تطبع هنا وهناك ، وإنما هي صياغة وتربية وتوجيه وتكتيك يأتي ذكره أيضاً في الصفحة التي تليها وهي صفحة دار الأرقم بن أبي الأرقم .

الصفحة الثامنة : دار الأرقم بن أبي الأرقم
النبي - صلى الله عليه وسلم- كان قد أخذ بالدعوة سراً حتى أمر بجهر الدعوة فجهر بها ، وهي لا تزال سرية ، لكن أصحابه كانوا يستخفون بدينهم ، يسرون إسلامهم ، ويستترون بعباداتهم ، فيصلون بالشعاب والمناطق البعيدة عن أهل مكة يختفون بدينهم ، ولذلك رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما بدأ به أهل الكفر من كفار قريش من الإيذاء والاضطهاد ورأى تكاثر هؤلاء الذين استجابوا لدعوته .

رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع القوم فكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم ملتقى الصحابة - رضوان الله عليهم - ودار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي كانت في آخر الصفا بمكة ، فكان الصحابة يأتونها سرا ، حتى إن بعضه كان يلقى بعضا ولا يعرف أنه من المسلمين ، ثم إذا بهما يلتقيان في دار الأرقم بن أبي الأرقم وهذه الصفحة فيها معلمان مهمان من معالم الدعوة :
أولاً : المعرفة والتعليم
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الدار يعلم الصحابة - رضوان الله عليهم - ، يتلو عليهم آيات القرآن ، يبين لهم أحكام الإسلام ، ويعرفهم أيضاً بما يجري بواقعهم وفي مجتمعهم ، وما يحاك حولهم، فلا بد من فئة مؤمنة من هذا الدار التي تنشر العلم بصورة عامة ، وبصورة خاصة أن تنشر العلم الشرعي ، والمعرفة الإيمانية ، والأخبار الواقعية ، والأحداث القديمة التاريخية في المساجد وبيوت الله ، وفي المنتديات والمحاضرات ، وفي اللقاءات والمؤتمرات ، كما إنها لا تقتصر على ذلك ، بل تكون في كل حال ، وفي كل آن ، في الحل والترحال ، في السفر والحضر ، وفي بيوت الناس ومجامعهم ، لأن المعرفة والعلم أساس مهم كما قال الله - عز وجل – { فاعلم أنه لا اله إلا الله واستغفر لذنبك } وليست المعرفة أو العلم مقصود به الناحية الشرعية فحسب ، بل الناحية المعرفية التي فيها استقراء التاريخ ، واستنطاق العبر ، ومعرفة الواقع ، وإدراك ما يدور حول الدعوة والمسلمين ، من أمور ينبغي أن يعرفوها ، وأن يحتاطوا لها ، وأن يعدوا لها العدة .

ولذلك كانت هذه الدار تمثل هذه المرحلة المهمة ؛ فإنه ينبغي لنا ألا نرضى من الناس بالعواطف ، وألا نكتفي منهم بأن يؤدوا عباداتهم ، بل لا بد أن نزيدهم ، وأن نعطيهم من العلم الذي جاء في كتاب الله ، وفي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن نوسع دائرة معرفتهم ، وأن نعمق الوعي في عقولهم ،لأننا نحتاج ونفتقر إلى شخصية المسلم العالم الواعي ؛ فإذا ذكر أو ذكرت شبهات وطعون في الإسلام كان عنده من العلم ما يمنعه من التأثر بها ، بل عنده من العلم ما يفندها ويرد عليها ،ويثبت بطلانها ، ويكون ذلك انتصاراً لهذا الدين ، وإقناعاً للآخرين، ويكون عندنا أيضاً من العلم والمعرفة ما لا يخدع به المسلم كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : " لست بالخبء ولا الخبء يخدعني " فإذا ما تستر الباطل في ستور مختلفة ، وإذا ما جاء الأعداء في لبوس الأصدقاء فلن يخدعه ذلك ، بل كان عنده الوعي والمعرفة والإدارك الذي يميز به بين الحق والباطل ، ويدرك به ما وراء السطور ، ويعرف ما يحاك للأمة الإسلامية ، وما يمكر به الماكرون ، وما يدبره المنافقون ، فإن الأمة اليوم مستهدفة من أعدائها ، ومغزوة في داخلها ببعض أبنائها كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن بعضهم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا .
ثانياً : التربية والتكوين
فإن العلم وحده لا يكفي بل كان النبي - عليه الصلاة والسلام - في هذه الدار يربي الصحابة ، ويبين لهم ما يواجهون من الأخطار ، ويركز فيهم المعاني الإيمانية ، التي تقوي عزيمتهم ، ويؤكد لهم أن بعد العسر يسراً ، ويبين لهم أن الاستمساك بالمنهج هو الذي يؤدي إلى النصر والتمكين ، ويثبت لهم - عليه الصلاة والسلام - من واقع سير الرسل والأنبياء قبلهم ، ومن واقع حياة المؤمنين في كل عصر وأوان ، أنهم لا بد لهم أن يثبتوا ، وأن يسعوا إلى تكامل شخصياتهم ، وأن ذلك كله يؤذن بأن يوسع دائرة الدعوة وأن يضعف جهود الأعداء ، وينخر في صفوفهم ، وأنهم ينبغي لهم أن لا يغيروا وألا يبدلوا .
ولذلك لا بد من هذا العلم والمعرفة من التطبيق العملي ، والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر ، والزاد الذي يقوي في الإنسان المسلم التزاما صادقا ، ووعياً وإدراكاً ، إضافة إلى أمل وثقة بالله - عز وجل - لا تنقطع ولا تنفصل ، وهذه الدار كانت هي المدرسة العظيمة التي تخرج منها كبار الصحابة من المهاجرين والسابقين الأولين إلى الإسلام أمثال أبي بكر وعمر وباقي العشرة المبشرين ، ومن جاء بعدهم من صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونعلم جميعاً أن هذه الفترة المكية الأولى لم يكن فيها عدد المسلمين كثيراً ، وذلك لظروف هذا الإيذاء والاضطهاد ، ولظروف سرية الدعوة ، لكن توعية المسلمين الذين رباهم النبي - عليه الصلاة والسلام - في مثل هذه الدار كانت توعية فريدة ، فكان الواحد بألف ، ولذلك يبين لنا هذا المعلم أهمية صياغة الشخصية المسلمة ، والتربية والتكوين الإسلامي الصادق الخالص القوي ؛ فإننا نريد مسلماً صادقاً خالصاً كاملاً ربما يكون أجدى وأنفع لهذه الأمة ، وأقوى في نصرة هذا الدين من كثرة كاثرة أخبر عنهم النبي - عليه الصلاة والسلام - أنهم غثاء كغثاء السيل ، وأنهم يقذف في قلوبهم الوهن ، فلما سئل عن الوهن ، قال : ( حب الدنيا وكراهية الموت ) . قد تكون هناك صفوف متراصة ، لكن فيهم جبان ، وفيهم خائف ، وفيهم متردد ، وفيهم متشكك ، فما أسرع أن تخرق هذه الصفوف ، وإذا كان هناك صف واحد ، لكنه لبنات قوية متماسكة مترابطة ؛ فإن كل هجوم على هذا الصف لن يبوء إلا بالفشل ، ولن يرجع إلا بالصدّ ، لأن هذه القوة والمتانة هي التي تحتاجها الأمة الإسلامية اليوم .

غني عن التمثيل تلك الأمثلة التي كانت في حياة النبي - عليه الصلاة والسلام - من قبل صحابته - رضوان الله عليهم - ؛ فإنهم قد ثبتوا في المحن، وكذلك ثبتوا أمام الاغراءات ، إضافة إلى أنهم لم يتشربوا ، ولم يتأثروا بالشبهات ، وكل ذلك كان يدلل ويبين أهمية تلك التربية التي رباهم عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبلال تحت الصخر يقول : أحد أحد .. ، ما تغير ولا تردد ، بل تغير من كانوا يجلدونه ، وأسلم بعضهم ، وإذا ذهبت بعد ذلك إلى سير أخرى من الصحابة ككعب بن مالك ، جاءه الإغراء من قبل إحدى الدولتين العظميين في ذلك الوقت الذي كان الصحابة بأمر النبي - عليه الصلاة والسلام - قد نهوا عن كلامه ، وأمروا بمقاطعته، ومع ذلك لم يستجب لذلك النداء ، ولم يضعف ، ولم يمل ، ولم يستوحش من المسلمين ، ولم يقطع رابطته بهم ، لأن التربية والتكوين كانت على أعلى المستويات المطلوبة، وهذه الدار هي التي خرجت تلك الكوكبة من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الصفحة التاسعة : الهجرة الأولى إلى الحبشة
حيث اشتد إيذاء قريش للمسلمين من صحابة النبي - عليه الصلاة والسلام - وكثر تتبعهم لهم ، واستقصاؤهم عنهم ، وتفتيشهم عن هؤلاء المسلمين المستخفين بدينهم، ثم إنهم صبوا عليهم العذاب صباً ، وكان هذا العذاب متنوع الأساليب من عذاب حسي ، ومن عذاب معنوي ، ومن سخرية وتحقير وصور كثيرة ، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الهجرة أمراً مهماً ، ومعلما أساسياً من معالم الدعوة ، وهو مبدأ [الحماية والانتشار]، لقد كان المسلمون في ذلك الوقت قلة ، وكانوا مستضعفين ، صحيح كان إيمانهم في قلوبهم عظيماً ، وكان يقينهم في نفوسهم راسخاً ، وكانت ثقتهم بالله كبيرة ، ومعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لكنه - عليه الصلاة والسلام - يعلمنا من خلال سيرته السنة الإلهية التي ينبغي أن تراعى وأن تتبع . لم تدفعهم حماستهم للحق الذي آمنوا به ، والدين الذي اعتصموا به أن يواجهوا الباطل كيفما اتفق ، لماذا ؟ لأنهم يريدون أن يعملوا ما يعود على هذا الدين بالنفع والفائدة ، وما يعود على الدعوة بالقوة والانتشار، ولذلك كما يذكر محمد الصادق في كتابه [ محمد رسول الله ] يقول :أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزع فتيل التوتر ، فقد كانت قريش في شدة حميتها ، وقوة توجهها نحو ضرب المسلمين ، والأمة الإسلامية ضربة إبادة ، وكان المسلمون قلة ، وكان كثير منهم من العبيد والموالي والضعفى الذين هم في طبيعة ذلك المجتمع ، ليس لهم حول ولا قوة، فأراد النبي - عليه الصلاة والسلام - أن يهدئ الأوضاع ، وأن يحمي هذه الكوكبة القليلة من الفئة المؤمنة، لماذا ؟ ليكون ذلك أدعى إلى انتشار الدعوة في وقت آخر وفي وقت قريب .

فليست المسألة مسألة تسلط أو تشدد ، وإنما هي مصلحة الدعوة حينما كانت، ولذلك ورد في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مثل المؤمن أنه كالأرزة تميلها الريح ولا تكسرها . إذا جاءت الظروف العصيبة ؛ فإنه يمكن أن يجعلها بهدوئه وسكينته وثباته على مبدئه ، تمر دون أن تقصم ظهره ، أو أن تعيق انطلاقته، وهكذا كان هدف النبي - عليه الصلاة والسلام - إضافة إلى ما كان منه - عليه الصلاة والسلام - من حكمة ودراية ومعرفة بالواقع ، فقد اختار أرض الحبشة وهي أرض قريبة من مكة لأنه ليس بينها وبين مكة إلا مسافات قصيرة من ناحية البحر ، ثم كما قال - عليه الصلاة والسلام - : ( إن فيها ملكاً عادلاً لا يظلم عنده أحد ) ولم يطلب المسلمون في هذه الهجرة سلامتهم ، ولم يختاروا العيش الرغيد ، والأمن الوارث ، وإنما أرادوا أن يقووا الصفوف ، وأن يبذروا الدعوة في مكان آخر ، وأن ينطلقوا بها مشرقين ومغربين .
ولذلك لا بد أن ندرك في مسيرة الدعوة أنها ليست ملكاً لفرد ، وأنها ليست ملكاً لفئة من الناس ، وإنما هي ملك للأمة كلها ، فلا ينبغي أن يتهور متهور فيورد الدعوة وأهلها والعلماء والمسلمين موارد التهلكة ، دون أن يكون هناك أي أثر إيجابي ، وما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله : ( سيد الشهداء حمزة ، ورجل قام إلى حاكم ظالم ، فأمره ونهاه فقتله ) ذكر أهل العلم أن ذلك إذا كان مختصاً بنفسه ، وذكر بعضهم أن ذلك فيما لا يؤثر على من وراءه ، إذ الإنسان قد يكون مضحياً بنفسه ، لكن ينبغي أن يحرص على نفع الأمة ومصلحتها ، ولذلك كانت هذه المرحلة التي اشتد فيها الأذى من كفار قريش أراد النبي أن يلتمس المسلمون مخرجاً ، وأن يخفف من ذلك العداء ، وأن يبعد أسباب النقمة الشديدة من أولئك الكفار، ثم أن يبذل أيضاً وأن يهيأ أسباب الانتشار في ظل ما قد يكون من سكينة أو هدوء أو ضعف في أسباب المواجهة والاعتداء على المسلمين من أبناء هذه الأمة .
الصفحة العاشرة : خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف
ثم نلمح أيضاً معلماً آخر في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهو المعلم الذي تمثل في خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف ، عندما لم تكن هناك استجابة عند قريش وأهل مكة ، خرج - عليه الصلاة والسلام - إلى الطائف يدعوا أهلها، ونعلم ما قام به أهل الطائف من الكفار في ذلك الوقت من الإيذاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، والإعراض عنه ، والصد له، وأنهم أغروا به سفهاءهم ، فقذفوه بالحجارة حتى دميت أقدامه - عليه الصلاة والسلام -، لكن هذه الصفحة تعطينا أيضاً معالم أخرى ، وأسس مهمة في الدعوة التي رسمها لنا النبي - صلى الله عليه وسلم- ومنها :
1- الحماسة والانطلاق
فهذه تمثل لنا مرحلة أيضاً أو صورة مهمة ، وهي صورة الحماسة والانطلاق ؛ فليس الأمر دائماً هو نوع من السكون أو الهدوء ، بل كان النبي - عليه الصلاة والسلام - في قلبه من الغيرة لهذا الدين ، والحماسة له ما جعله يلتمس طريقاً لأي قوم ولأي بلد يمكن أن يلقى فيه قبولاً لهذه الدعوة .

2- الدعوة عالمية وليست إقليمية
ليست مختصة بعرب دون عجم ، ولا ببلاد دون بلاد ، بل ينبغي أن يسير بها المسلمون إلى كل البشر أجمعين ، وإلى كل الأقطار بلا استثناء ، ولذلك إذا أعرض قوم ؛ فإن قوم آخرين سيقبلون ويقبلون بإذن الله عز وجل .

3- عدم اليأس وعدم الركون
أو القعود عن الدعوة لأجل أعراض المعرضين ، أو صد الذين يصدون عن دين الله - عز وجل - ،بل عندما صدت قريش وامتنعت ، التمس النبي - عليه الصلاة والسلام - الطريق إلى الطائف ، وعندما صد أهل الطائف وامتنعوا ، عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وظل يدعوا حتى شرح الله صدور الكوكبة الأولى من الأنصار في بيعة العقبة إلى الإسلام ، وكانوا بذرة من البذور التي لها ما بعدها في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم .

الصفحة الحادية عشر : الهجرة النبوية إلى المدينة
وهي أيضاً مهمة غاية الأهمية في حياة الدعوة الإسلامية ؛ ذلك أنها تمثل مرحلة التخطيط والتمكين، فالنبي - عليه الصلاة والسلام - قد هيأ لهذه الهجرة تهيئاً عظيماً ؛ فإنه قد يسر أولاًَ من خلال البيعة الأولى للأنصار ، كوكبة آمنت به وبرسالته - عليه الصلاة والسلام - ، ثم بعث معهم مصعب بن عمير - رضي الله عنه - ليوسع دائرة الدعوة في هذه الأرض الجديدة ، علها تكون أرضاً لهذه الدعوة ، ولإقامة دولة الإسلام فيها، ثم بعد ذلك جعل أصحابه يهاجرون إليها زرافات ووحداناً، ثم بعد ذلك شاع الإسلام في المدينة ، فأحكم النبي - عليه الصلاة والسلام – خطته ، وهيأ أمره .

وكما نعلم في هجرته من الأسباب الكثيرة التي أخذها - وليس هذا موضع سردها - ؛ فإنه أخذ جنوباً إلى غار ثور بدلاً أن يأخذ شمالاً إلى طريق المدينة . ونعلم أنه اختبأ في الغار ثلاثة أيام ، وأنه اتخذ طريقاً غير الطرق المسلوكة ، إلى غير ذلك ، فهذه صورة تمثل لنا أن الدعوة الإسلامية ينبغي أن تسعى على أن تمكن في الأرض ، وإلى أن تتهيأ لها الأسباب لإقامة المجتمع الإسلامي الذي يحكم شرع الله - عز وجل - ويصبغ الحياة كلها صبغة إسلامية، ليس فيها قبول لا لحكم ولا لشرع ولا لأمر ولا لعادة ولا لتقليد إلا وفق شرع الله - سبحانه وتعالى - ، فلا يكتفي أن يكون المسلم مسلماً في نفسه ، ولا يكتفي أن يكون جمع من المسلمين في بيئة جاهلية أو في أوضاع كفرية، بل ينبغي أن يسعى المسلمون إلى أن يوجدوا مجتمعاً كاملاً برجاله ونسائه وأطفاله وبيوته مجتمعاً كاملاً باقتصاده واجتماعه وسياسته مجتمعاً كاملاً في أفراده وفي جماعاته ، مجتمعاً كاملاً في سلمه وفي حربه ، كله إسلامي كامل كما فعل النبي - عليه الصلاة والسلام - ، فكل تلك المراحل التي مرت بها الدعوة في حياته - عليه الصلاة والسلام - كانت مراحل ممهدة ومهيأة ، وكان - عليه الصلاة والسلام - يرمي إلى هذه المرحلة وهذا المعلم المهم من معالم الدعوة ، وقد أخذ له أهبته بصور شتى كثيرة مما مضى .

فتلك التربية والتكوين لهذه الفئة القوية الراسخة ، وذلك الانطلاق الذي شرّق فيه وغرّب ، حتى وجد القلوب المؤمنة من الأنصار تلك التهيئة بما حصل من بعث مصعب بن عمير - رضي الله عنه - ، الداعية الذي فتح بيوت الأنصار في المدينة المنورة ، ونوّرهم بهذا الإٍسلام ، إضافة إلى أحكامه - عليه الصلاة والسلام - لحظة هجرته، وبذلك عندما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة كانت هذه مرحلة من المراحل المهمة في حياة الدعوة ، وهي مرحلة التخطيط الذي له بعدٌ في المدى ، وبعدٌ في الزمن ، وعمق في النظرة ، وشمول يما يحيط بالدعوة من متغيرات ومستجدات ، واختيار وانتقاء ، ثم كان بعد ذلك التمكين ، وإقامة دولة الإسلام عندما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، فإذا بها تستقبله وهي قد أعطته بيعتها في البيعة الأولى والبيعة الثانية - أي بيعة العقبة الأولى والثانية -، وقد أعطته أيضاً قيادتها ، فهو القائد المسود فيها ، وقد أعطته حكمها فهو الذي يبلغ شرع الله - عز وجل – لها ، فكان ذلك هو الفتح الأعظم ، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (أمرت بقرية ‏ ‏تأكل القرى ‏ ‏يقولون ‏: يثرب ، ‏وهي ‏ ‏المدينة ‏ ‏تنفي الناس كما ينفي ‏ ‏الكير ‏ ‏خبث ‏ ‏الحديد ) يعني انه أمر بالهجرة إلى قرية هذا وصفها تأكل القرى أي تكون منطلقاً وقاعدة للدعوة والدولة الإسلامية، وهكذا كان فعله - عليه الصلاة والسلام - لا بد أن توجد أرض ومجتمع وحكم وشرع إسلامي يكون هذا منطلقاً لهذه الدعوة .

الصفحة الثانية عشر : الجهاد
قد يقول قائل قد بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأمر مبلغه ، وحقق غاية عظمى ، وكأن قائلاً قد يقول : يكفي النبي - صلى الله عليه وسلم - ما حققه بإيجاد دولة الإسلام في المدينة ، وهذه نظرة خاطئة قاصرة لا تفقه هذا الدين ، ولا تعرف رسالته ولا تعرف أنه خاتم الأديان الذي اقتضاه الله - عز وجل - لهذه البشرية جمعاء ، عندما استقر الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام بدأت صفحة جديدة أخرى أيضاً هي استمرار للدعوة مما يبين معلماً مهماً وهو أن هذه الدعوة لا منتهى لها لا في الزمان ولا في المكان ولا في الأشخاص ، بل كما قال من قال في التعليق الذي أشرت إليه في قوله - عز وجل - : { يا أيها المدثر * قم فأنذر } ولذلك لا توقف بل هذه المرحلة السابقة في إيجاد المجتمع المسلم إنما هي مرحلة قوية ، ونقلة نوعية لمزيد من العمل من أجل الدعوة لهذا الدين ، أما أنها مرحلة توعية فلأن الناس يرون مجتمعاً إسلامياً كاملاً ، تتمثل فيه الأحكام والآداب والأخلاق والأعراف الإسلامية ، فهذه دعوة ناطقة من خلال المشاهد الحية والممارسة الحياتية اليومية في مجتمع المدينة المنورة ، ثم هي أيضاً نوع من التكامل والقوة التي تساعد في جو من الحرية ، وجو من التكامل أن تؤسس الدعوة نفسها ، وتأخذ كل أسباب دعوتها لتنطلق انطلاقة أكثر وأقوى مما تكون الدعوة عندما تكون فئات قليلة في مجتمعات منحرفة ، أو يكونون كثرة في ظل حكم كافر أو نحو ذلك من الصور ؛ فإن الصورة المثلى الأقوى في التأثير هي ما يكون بعد وجود هذا المجتمع المسلم والأرض الإسلامية ولذلك فالصفحة العظمى الأساسية الظاهرة البينة في هذه المرحلة هي صفحة الجهاد الإسلامي .

وهذه تبين لنا كما قلت استمرارية الدعوة وشمولها وانطلاقها الذي لا يحده حد لا من زمان ولا من مكان ، ولذلك كما ذكر ابن القيم - رحمة الله عليه - في زاد المعاد ؛ مراتب المراحل التي فيها الجهاد أو القتال في الإسلام ؛ من كف الأيدي ثم الانتصار فقط لمن اعتدى إلى المرحلة التي فيها الجهاد والانطلاق إلى أهل الكفر في كل مكان ، فإما أن يسلموا وإما أن يدفعوا الجزية ، وأن يفتحوا الطريق للمسلمين ليعيشوا في هذه البلاد ، ويدعوا فيها ويعلوا كلمة الله - عز وجل - دون أن يكون إكراه في الدين وإما أن يقاتلوا حتى تزاح هذه العوائق التي تحول بين الناس وبين هذا الدين ، ولذلك الجهاد هو نوع من إزالة العوائق من طريق الدعوة والجهاد العسكري ، وهو صورة من صور الدعوة كما أن هناك جهاد قولي ، وهناك جهاد تربوي ، وهناك جهاد نفسي فهناك جهاد عسكري وكلها مرتبطة بغاية الدعوة فليس الجهاد في الإسلام إراقة دماء ، ولا إزهاق أرواح ، ولا تدمير بيوت ، ولا إحراق زروع وثمار .

بل كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية وقال : ( لا تسألني قريش خطة يعظمون فيها حرمات الله ويحقنون بها الدماء إلا أعطيتهم إياها ) وكما فعل - عليه الصلاة والسلام - في فتح مكة عندما عفا عن من كانوا ناوروه ليبين استعلاء هذا الدين عن الانتقام والثأر النفسي ، وليبين رسالة هذا الدين في أنها تهدف إلى إيجاد الغايات ، وإلى تحقيق الرسالة ، وإلى نشر الدعوة لا أقل ولا أكثر ، فكانت هذه الصفحة في المدينة المنورة صفحة الجهاد الإسلامي ، وهذه صفحة مهمة ليس هذا موضع الحديث فيها ؛ فإنها قد استغرقت مثل ما استغرقت الفترة المكية من ناحية الزمن كما أنها لئن كان قد خسر المسلمون بالمقياس المادي أو أرهقوا بالمقياس المادي بالفترة المكية ؛ فإنهم في الفترة المدنية بهذا الجهاد بذلوا أرواحا وأموالاً وأجروا دماءً في سبيل الله - عز وجل - ، وهذا يبين أن الدعوة متلازمة مع التضحية والبذل في سبيل الله - سبحانه وتعالى – { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقْتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن } .

ثم أيضاً يبين لنا هذا من وجه آخر أن هذه الدعوة وانطلاقتها الجهادية يتلازم فيها وجود المسلمين مع دعو
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
قراءة دعوية في السيرة النبوية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: المنتدي الاسلامي الشامل :: القسم الاسلامي العام-
انتقل الى: